مقالة تستحق القراءة بعنوان "ليلة سقوط بغداد: لمن تدق الأجراس؟ " للدكتور أحمد يوسف أحمد نشرت في صحيفة الاتحاد في قراءة رائعة للفيلم المصري العربي ليلة سقوط بغداد.. الفيلم يتناول فكرة مدير مدرسة يحاول تطوير سلاح ردع عربي لحماية مصر من تكرار تجربة العراق.. وأرفق مع المقالة مشهد من الفيلم يظهر مدير المردسة مع أصدقاءه بالقهوة بمشهد أقل ما يقال عنه مضحك مبكي عندما يقول له صديقه "انت فاكر يوم ما قطعت الكهربا عن مصر كلها.. يوميها كانو محتاجين كهربة مصر كلها عشان يخصبو اليورانيوم!!" ويقول الاخر مصوما بالتشكيك بوجود سلاح الردع من صاحبنا "احنا لو ما عناش (سلاح ردع) كنت حتلاقي حمى بالتفكير والابداع والانتاج انما الهدوء والامبالاة الي احنا فيها دي بتاعة ناس اكيد عندها سلاح ردع!!" اكيد يا صديقي اكيد.. ومن يصنعه وقد نخرنا االفساد من الوريد الى الوريد..
واسفاه.. أترككم مع المقالة
يقول الدكتور أحمد: "عندما كنا نعمل في إعداد كتاب ''صناعة الكراهية في العلاقات العربية- الأميركية'' سألنا الأستاذ الناقد الأدبي الدكتور عبدالعزيز حمودة أن يساهم في الكتاب بدراسة عن العلاقات الثقافية العربية-الأميركية، فاستجاب مشكوراً وجاءت دراسته مزيجاً رائعاً من الثقافة والسياسة·
كانت فكرته الأساسية أن العرب قد انبهروا في البداية بالنموذج الأميركي في شموله، ثم جاءت لحظة ''فقدان البراءة'' -كما أسماها- عندما اكتشفوا تناقض السياسة الأميركية مع مصالحهم واتخاذها مواقف عدائية تجاه مطالبهم، لكنهم مع ذلك أبقوا انبهارهم بنموذج الحياة الأميركية، وإن حذر في خلاصة دراسته من أن النهج السياسي الأميركي الراهن تجاه الوطن العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ينذر بعبور العرب للفجوة بين رفضهم للسياسة الأميركية واستمرار انبهارهم بنموذج الحياة الأميركية بما يعني أن العداء قد يشمل الأمرين معاً· كتب حمودة دراسته قبل العدوان الأميركي على العراق وتداعياته، وبدا تدريجياً أنها مثلت نوعاً من النبوءة العلمية الصادقة كما اتضح من تطور المشاعر العربية تجاه الولايات المتحدة بعد احتلال العراق·
اتصالاً بهذا المعنى شهدت الساحة الفنية المصرية عديداً من الأعمال التي تتحدث عن الهيمنة الأميركية أو زيف الانبهار بالحلم الأميركي كمسرحية ''ماما أميركا'' أو فيلم ''أميركا شيكا بيكا'' أو مسرحية ''اللعب في الدماغ''، ومن المؤكد أن الساحة العربية على اتساعها قد شهدت أعمالاً مماثلة· في هذا السياق يأتي فيلم ''ليلة سقوط بغداد'' مع اقتراب الذكرى الثالثة للعدوان على العراق واحتلاله ليعبر عن موقف ممتد لعناصر مهمة من النخبة الفكرية والفنية في مصر والوطن العربي تجاه مسألة الهيمنة الأميركية، ويجسد ''فانتازيا'' تجمع بين منتهى الكوميديا وذروة الجدية في الوقت نفسه على النحو الذي وضع سقفاً من الانكسار والألم والمرارة والإحباط للإحساس بالمواقف الكوميدية في الفيلم، ولست بسبيل الحديث عن ''ليلة سقوط بغداد'' كناقد فني بطبيعة الحال غير أن إمعان النظر فيما حمله الفيلم من أفكار وما تضمنه من رسائل تحذير يبدو بالغ الأهمية في الظروف الراهنة التي تمر بها الأمة العربية·
يترجم الفيلم مفهوم الأمن القومي العربي من منظور إنساني بسيط يبدأ بحالة الوجوم والإحباط والحزن التي تسيطر على مجموعة من الشعب المصري المنتمين اجتماعياً إلى الطبقة الوسطى وما دونها عندما يستمع هؤلاء إلى أنباء الهجوم الأميركي على العراق وصولاً إلى سقوط بغداد· ثم يثور التساؤل لاحقاً: ألا يمكن أن يحدث هذا لنا؟ وهو الهاجس نفسه الذي سجله جمال عبدالناصر في كتيبه الشهير ''فلسفة الثورة'' الذي صدر في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي عندما علق بتلقائية كضابط مقاتل في فلسطين على ما ألمَّ بشعبها قائلاً: ''قد يحدث هذا لابنتي''· ومنذ لحظة طرح السؤال يبدأ بطل الفيلم في التعرض لكابوس ليلي تقتحم فيه قوات المارينز منزله، ويتطور الكابوس لاحقاً مع اتساع نطاق التهديدات الأميركية لسوريا وإيران وغيرهما وانكشاف الممارسات اللاإنسانية لقوات الاحتلال في العراق بحيث يتضمن -أي الكابوس- اعتقاله وأفراد أسرته وتعرض ابنته لما تعرضت له فتيات ونسوة عراقيات·
يكشف الفيلم في بلاغة عن عقم المواجهات اللفظية للخطر، فعندما يتظاهر طلاب المدرسة التي يعمل بطل الفيلم ناظراً لها ويطلبون رفع لافتات تندد بالعدوان على العراق يطلب منهم صاحبنا أن يفتحوا القوس ويضيفوا اسم العراق بعد أفغانستان، وعندما يصل التهديد إلى سوريا وإيران يفعل الأمر نفسه، ثم يطلب منهم ألا يقفلوا القوس بعد ذلك انتظاراً لما سيجيء·
ويتساءل صاحبنا ويحاور أصدقاءه: هل نملك سلاحاً رادعاً يحمينا من مصير مماثل؟ ليكتشف الجميع بعد سباحة قصيرة في بحر الأوهام أن الإجابة هي النفي بالتأكيد، ومن هنا تمضي الفانتازيا لتكشف لنا تبديد مقومات الأمن القومي عندما يبدأ صاحبنا في البحث عن عالم يمكنه أن يتوصل إلى أسرار سلاح يردع المعتدين، فيقع اختياره على أحد طلبته السابقين الذي اشتهر بنبوغه العلمي· يعرف أنه واصل تفوقه في كلية العلوم إلى أن تخرج منها فيبدأ رحلة للبحث عنه ليعرض عليه مشروعه، فيجده غارقاً مع غيره من الشباب -من بينهم طلبة من مدرسة صاحبنا- في سحب من دخان المخدرات· مع ذلك فإن صاحبنا يتمكن في النهاية من إقناع الباحث الشاب بمشروعه: أن يرصد كل ما يملكه من موارد لتمويل بحث علمي يهدف إلى إنتاج سلاح ردع يحمي الوطن من الخطر· ولا يكتفي صاحبنا بهذا بل يحيل -مع تعثر محاولات التوصل إلى هذا السلاح- مأوى السيارات في البناية التي يسكن بها إلى ساحة لتدريب أسرته ثم جيرانه على أسلحة متنوعة تحسباً للغزو الأميركي القادم·
الدولة غائبة تماماً في ''ليلة سقوط بغداد''، هي غائبة من منظور الإنجاز لأن أهم إنجازاتها من وجهة نظر الفيلم هو هدف التعادل الذي أحرزه الفريق المصري في مرمى هولندا في نهائيات كأس العالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وموقفها غير واضح من العدوان على العراق واحتلاله والمخاطر المترتبة على ذلك، وعندما يبحث الأهالي عن الحماية لا يلجأون إليها وإنما يمول أحدهم مشروعاً للبحث العلمي يسعى إلى التوصل لإنتاج سلاح ردع يحمي من الخطر القادم، وعندما يتعثر الباحث يبشرهم صاحبنا بأن البديل الوحيد أمامهم هو الركوع للأميركيين والتوسل إليهم بأن يفعلوا فيهم ما فعلوه بالعراقيين والعراقيات، وعندما ينجح الباحث في التوصل إلى الأساس العلمي لإنتاج السلاح المطلوب لا يجد من يتبناه بما في ذلك مؤسسات التصنيع العسكري التي تفرغت لإنتاج أجهزة التليفزيون، وعندما يتم اللجوء إلى أحد رجال الأعمال المعروفين برعايتهم للمواهب يتضح أنه لا يرعى إلا الفنانين والرياضيين، ويقترح بالمقابل على باحثنا الشاب أن يسخر جهوده في مشروع يتعلق ''بنغمات'' الهواتف النقالة في إشارة ذكية إلى أن رجال الأعمال لا يملكون بحكم تركيبتهم ومصالحهم مفتاح الخلاص، والدولة غائبة أيضاً عندما يشتري صاحبنا الأسلحة ويحول مأوى السيارات في منزله إلى ترسانة مسلحة وساحة للتدريب على المقاومة، والمدرب رجل مقاومة شعبية سابق يوصف تجاوزاً باللواء، وهي غائبة عندما تكتشف المخابرات المركزية الأميركية جهود صاحبنا وتقرر مواجهته مباشرة، وهي تابعة عندما يخفق رجلا المخابرات المركزية في إقناع صاحبنا والباحث الذي يرعاه بالتعاون، وكذلك يخفقان في تخويفهما خاصة بعد أن تمكن الأخير من إنتاج نموذج للسلاح المطلوب فيهددانهما بإيداعهما في مستشفى للأمراض العقلية لكي نكتشف في اللقطة التالية مباشرة أن الوعيد قد نفذ من فوره وأن سنين قد مرت على تنفيذه· ينتهي الفيلم بتحول الكابوس إلى حقيقة ودخول قوات المارينز إلى أرض الوطن، ويهرع لاستقبالها من كان يرحب طيلة الفيلم بغزو العراق ويتمنى المصير نفسه لوطنه حتى يأتي الأميركان ''لتنظيفنا'' فيكون أول من يسقط برصاص المارينز في إشارة رمزية ذكية لعقم الفكرة ومصير العملاء في آن واحد· يتجمع الأهالي في الساحة التي يغطيها سلاح الردع الدفاعي الذي توصل إليه باحثنا الشاب في مشهد يذكرنا برائعة جمال الغيطاني ''ذكر ما جرى'' عندما تجمع الصامدون دفاعاً عما بقي من وطنهم في مواجهة هجمة الانفتاح والخصخصة التي لا تخلو بطبيعة الحال من أبعاد تتعلق بالهيمنة العالمية·
ينجح السلاح في المواجهة ويشتعل حماس الأهالي ويتساءل صاحبنا: ماذا كان ليحدث لو لم نملك مثل هذا السلاح؟ ويجيب كان الوضع سيكون غير الوضع، وذلك في رسالة تحذير واضحة من انكشافنا التام في مواجهة الخطر الخارجي·
لا تعامل هذه الأعمال الفنية كبحث علمي أو وثيقة استراتيجية للمواجهة، ولكنها تُقيم بما تثيره من أفكار وما تبعث به من رسائل، وأحسب أن فيلم ''ليلة سقوط بغداد'' ينبهنا إلى أفكار محورية يحاول البعض أن ينساها أو يتناساها، ويبعث بإشارات تحذير في كل الاتجاهات حول تفاقم التهديدات الخارجية وغياب مقومات مواجهتها ناهيك عن غياب استراتيجية سليمة لهذه المواجهة· ومن الأهمية بمكان أن رسائل التحذير هذه قد حملتها مجموعة من شباب النخبة الفنية في مصر بما يبعث على اطمئنان نسبي مرده أن محاولات محو الهوية وكسر إرادة المقاومة في أوساط شبابنا لم تفلح في الوصول إلى غاياتها حتى الآن· لقد تحدث الباحث الشاب عندما وُجه اللوم إليه لتعثره في التوصل إلى المطلوب منه عن الفجوة الهائلة المتزايدة بيننا وبين العالم المتقدم، ووجه اللوم بدوره إلى جيل الآباء لأنه سلمهم الراية منكسرة فهل يخرج من بين جيل الشباب من يرفعون رايات الوطن والأمة؟ " انتهى
* عن الاتحاد
كانت فكرته الأساسية أن العرب قد انبهروا في البداية بالنموذج الأميركي في شموله، ثم جاءت لحظة ''فقدان البراءة'' -كما أسماها- عندما اكتشفوا تناقض السياسة الأميركية مع مصالحهم واتخاذها مواقف عدائية تجاه مطالبهم، لكنهم مع ذلك أبقوا انبهارهم بنموذج الحياة الأميركية، وإن حذر في خلاصة دراسته من أن النهج السياسي الأميركي الراهن تجاه الوطن العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ينذر بعبور العرب للفجوة بين رفضهم للسياسة الأميركية واستمرار انبهارهم بنموذج الحياة الأميركية بما يعني أن العداء قد يشمل الأمرين معاً· كتب حمودة دراسته قبل العدوان الأميركي على العراق وتداعياته، وبدا تدريجياً أنها مثلت نوعاً من النبوءة العلمية الصادقة كما اتضح من تطور المشاعر العربية تجاه الولايات المتحدة بعد احتلال العراق·
اتصالاً بهذا المعنى شهدت الساحة الفنية المصرية عديداً من الأعمال التي تتحدث عن الهيمنة الأميركية أو زيف الانبهار بالحلم الأميركي كمسرحية ''ماما أميركا'' أو فيلم ''أميركا شيكا بيكا'' أو مسرحية ''اللعب في الدماغ''، ومن المؤكد أن الساحة العربية على اتساعها قد شهدت أعمالاً مماثلة· في هذا السياق يأتي فيلم ''ليلة سقوط بغداد'' مع اقتراب الذكرى الثالثة للعدوان على العراق واحتلاله ليعبر عن موقف ممتد لعناصر مهمة من النخبة الفكرية والفنية في مصر والوطن العربي تجاه مسألة الهيمنة الأميركية، ويجسد ''فانتازيا'' تجمع بين منتهى الكوميديا وذروة الجدية في الوقت نفسه على النحو الذي وضع سقفاً من الانكسار والألم والمرارة والإحباط للإحساس بالمواقف الكوميدية في الفيلم، ولست بسبيل الحديث عن ''ليلة سقوط بغداد'' كناقد فني بطبيعة الحال غير أن إمعان النظر فيما حمله الفيلم من أفكار وما تضمنه من رسائل تحذير يبدو بالغ الأهمية في الظروف الراهنة التي تمر بها الأمة العربية·
يترجم الفيلم مفهوم الأمن القومي العربي من منظور إنساني بسيط يبدأ بحالة الوجوم والإحباط والحزن التي تسيطر على مجموعة من الشعب المصري المنتمين اجتماعياً إلى الطبقة الوسطى وما دونها عندما يستمع هؤلاء إلى أنباء الهجوم الأميركي على العراق وصولاً إلى سقوط بغداد· ثم يثور التساؤل لاحقاً: ألا يمكن أن يحدث هذا لنا؟ وهو الهاجس نفسه الذي سجله جمال عبدالناصر في كتيبه الشهير ''فلسفة الثورة'' الذي صدر في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي عندما علق بتلقائية كضابط مقاتل في فلسطين على ما ألمَّ بشعبها قائلاً: ''قد يحدث هذا لابنتي''· ومنذ لحظة طرح السؤال يبدأ بطل الفيلم في التعرض لكابوس ليلي تقتحم فيه قوات المارينز منزله، ويتطور الكابوس لاحقاً مع اتساع نطاق التهديدات الأميركية لسوريا وإيران وغيرهما وانكشاف الممارسات اللاإنسانية لقوات الاحتلال في العراق بحيث يتضمن -أي الكابوس- اعتقاله وأفراد أسرته وتعرض ابنته لما تعرضت له فتيات ونسوة عراقيات·
يكشف الفيلم في بلاغة عن عقم المواجهات اللفظية للخطر، فعندما يتظاهر طلاب المدرسة التي يعمل بطل الفيلم ناظراً لها ويطلبون رفع لافتات تندد بالعدوان على العراق يطلب منهم صاحبنا أن يفتحوا القوس ويضيفوا اسم العراق بعد أفغانستان، وعندما يصل التهديد إلى سوريا وإيران يفعل الأمر نفسه، ثم يطلب منهم ألا يقفلوا القوس بعد ذلك انتظاراً لما سيجيء·
ويتساءل صاحبنا ويحاور أصدقاءه: هل نملك سلاحاً رادعاً يحمينا من مصير مماثل؟ ليكتشف الجميع بعد سباحة قصيرة في بحر الأوهام أن الإجابة هي النفي بالتأكيد، ومن هنا تمضي الفانتازيا لتكشف لنا تبديد مقومات الأمن القومي عندما يبدأ صاحبنا في البحث عن عالم يمكنه أن يتوصل إلى أسرار سلاح يردع المعتدين، فيقع اختياره على أحد طلبته السابقين الذي اشتهر بنبوغه العلمي· يعرف أنه واصل تفوقه في كلية العلوم إلى أن تخرج منها فيبدأ رحلة للبحث عنه ليعرض عليه مشروعه، فيجده غارقاً مع غيره من الشباب -من بينهم طلبة من مدرسة صاحبنا- في سحب من دخان المخدرات· مع ذلك فإن صاحبنا يتمكن في النهاية من إقناع الباحث الشاب بمشروعه: أن يرصد كل ما يملكه من موارد لتمويل بحث علمي يهدف إلى إنتاج سلاح ردع يحمي الوطن من الخطر· ولا يكتفي صاحبنا بهذا بل يحيل -مع تعثر محاولات التوصل إلى هذا السلاح- مأوى السيارات في البناية التي يسكن بها إلى ساحة لتدريب أسرته ثم جيرانه على أسلحة متنوعة تحسباً للغزو الأميركي القادم·
الدولة غائبة تماماً في ''ليلة سقوط بغداد''، هي غائبة من منظور الإنجاز لأن أهم إنجازاتها من وجهة نظر الفيلم هو هدف التعادل الذي أحرزه الفريق المصري في مرمى هولندا في نهائيات كأس العالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وموقفها غير واضح من العدوان على العراق واحتلاله والمخاطر المترتبة على ذلك، وعندما يبحث الأهالي عن الحماية لا يلجأون إليها وإنما يمول أحدهم مشروعاً للبحث العلمي يسعى إلى التوصل لإنتاج سلاح ردع يحمي من الخطر القادم، وعندما يتعثر الباحث يبشرهم صاحبنا بأن البديل الوحيد أمامهم هو الركوع للأميركيين والتوسل إليهم بأن يفعلوا فيهم ما فعلوه بالعراقيين والعراقيات، وعندما ينجح الباحث في التوصل إلى الأساس العلمي لإنتاج السلاح المطلوب لا يجد من يتبناه بما في ذلك مؤسسات التصنيع العسكري التي تفرغت لإنتاج أجهزة التليفزيون، وعندما يتم اللجوء إلى أحد رجال الأعمال المعروفين برعايتهم للمواهب يتضح أنه لا يرعى إلا الفنانين والرياضيين، ويقترح بالمقابل على باحثنا الشاب أن يسخر جهوده في مشروع يتعلق ''بنغمات'' الهواتف النقالة في إشارة ذكية إلى أن رجال الأعمال لا يملكون بحكم تركيبتهم ومصالحهم مفتاح الخلاص، والدولة غائبة أيضاً عندما يشتري صاحبنا الأسلحة ويحول مأوى السيارات في منزله إلى ترسانة مسلحة وساحة للتدريب على المقاومة، والمدرب رجل مقاومة شعبية سابق يوصف تجاوزاً باللواء، وهي غائبة عندما تكتشف المخابرات المركزية الأميركية جهود صاحبنا وتقرر مواجهته مباشرة، وهي تابعة عندما يخفق رجلا المخابرات المركزية في إقناع صاحبنا والباحث الذي يرعاه بالتعاون، وكذلك يخفقان في تخويفهما خاصة بعد أن تمكن الأخير من إنتاج نموذج للسلاح المطلوب فيهددانهما بإيداعهما في مستشفى للأمراض العقلية لكي نكتشف في اللقطة التالية مباشرة أن الوعيد قد نفذ من فوره وأن سنين قد مرت على تنفيذه· ينتهي الفيلم بتحول الكابوس إلى حقيقة ودخول قوات المارينز إلى أرض الوطن، ويهرع لاستقبالها من كان يرحب طيلة الفيلم بغزو العراق ويتمنى المصير نفسه لوطنه حتى يأتي الأميركان ''لتنظيفنا'' فيكون أول من يسقط برصاص المارينز في إشارة رمزية ذكية لعقم الفكرة ومصير العملاء في آن واحد· يتجمع الأهالي في الساحة التي يغطيها سلاح الردع الدفاعي الذي توصل إليه باحثنا الشاب في مشهد يذكرنا برائعة جمال الغيطاني ''ذكر ما جرى'' عندما تجمع الصامدون دفاعاً عما بقي من وطنهم في مواجهة هجمة الانفتاح والخصخصة التي لا تخلو بطبيعة الحال من أبعاد تتعلق بالهيمنة العالمية·
ينجح السلاح في المواجهة ويشتعل حماس الأهالي ويتساءل صاحبنا: ماذا كان ليحدث لو لم نملك مثل هذا السلاح؟ ويجيب كان الوضع سيكون غير الوضع، وذلك في رسالة تحذير واضحة من انكشافنا التام في مواجهة الخطر الخارجي·
لا تعامل هذه الأعمال الفنية كبحث علمي أو وثيقة استراتيجية للمواجهة، ولكنها تُقيم بما تثيره من أفكار وما تبعث به من رسائل، وأحسب أن فيلم ''ليلة سقوط بغداد'' ينبهنا إلى أفكار محورية يحاول البعض أن ينساها أو يتناساها، ويبعث بإشارات تحذير في كل الاتجاهات حول تفاقم التهديدات الخارجية وغياب مقومات مواجهتها ناهيك عن غياب استراتيجية سليمة لهذه المواجهة· ومن الأهمية بمكان أن رسائل التحذير هذه قد حملتها مجموعة من شباب النخبة الفنية في مصر بما يبعث على اطمئنان نسبي مرده أن محاولات محو الهوية وكسر إرادة المقاومة في أوساط شبابنا لم تفلح في الوصول إلى غاياتها حتى الآن· لقد تحدث الباحث الشاب عندما وُجه اللوم إليه لتعثره في التوصل إلى المطلوب منه عن الفجوة الهائلة المتزايدة بيننا وبين العالم المتقدم، ووجه اللوم بدوره إلى جيل الآباء لأنه سلمهم الراية منكسرة فهل يخرج من بين جيل الشباب من يرفعون رايات الوطن والأمة؟ " انتهى
* عن الاتحاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق